كفاح عالم دين نحو الاستقلال: من "مُدرّس" بسيط إلى رائد ثورة تعليمية


في زمنٍ لم يكن فيه لعلماء الدين الإسلامي الحرية الكاملة للعمل أو التعبير، وكان يُنظر إليهم باعتبارهم تابعين لسلطة الأغنياء أو لإرادة القائمين على شؤون المساجد، خرجت من أعماق هذا الواقع قصة كفاح ملهمة لعالم دين قرر أن يشق طريقه بحرية، دون خضوع لأي سلطة سوى قناعته وعلمه.

يصف الأستاذ كانتّابورام أي. بي. أبو بكر مسليار (فضيلة الشيخ مفتي الديار الهندية)، في إحدى مروياته الشخصية، كيف نشأت في ذهنه فكرة ضرورة أن يعمل علماء الدين بحرية تامة، دون أن يخضعوا لأي قيود. ففي زمنٍ كانت فيه دراسة العلوم الدينية ملاذًا لأبناء الفقراء، ولم تكن لهذه الدراسة أي صلة بالفخر أو المكانة الاجتماعية، بل كانت مجرد وسيلة للهروب من الفقر المدقع، كان الطريق شاقًا ومليئًا بالتحديات.

العلاقة بين العلماء الفقراء وإدارة المساجد الممثلة في الأغنياء، كانت تعكس نموذجًا مختلفًا من علاقات "المالك والمستأجر"، حيث لم يكن للعالم استقلالية تامة في عمله أو قراراته. هذه الظروف حفّزت كانتّابورام منذ صغره، وخصوصًا بعد إنهاء دراسته في معهد "باقيات الصالحات" في ولاية تاميل نادو، على أن يسعى لتغيير هذا الواقع.

في إحدى التجارب التي شكّلت منعطفًا مهمًا في حياته، شارك مسليار في مناظرة فكرية بين اهل البدع واهل السنة حيث كان ممثلًا عن أهل السنة. وقد حاول مراقب المناظرة، وهو من كبار السلفيين في المنطقة، أن يفرض تحيّزه أثناء النقاش، فما كان من كانتّابورام إلا أن رفض الاستمرار معه، وطلب منه التوقف. هذا الموقف أثار جدلًا واسعًا، واعتُبر تصرفًا جريئًا في زمن لم يكن لأحدٍ أن يجرؤ فيه على مجرّد الاعتراض على أصحاب النفوذ، خصوصًا أن المراقب كان من أقارب القائم على المسجد الذي يعمل فيه فضيلة الشيخ ابوبكر

لم يرافقه أحد حين استُدعي لمحاسبته، رغم أن البعض نصحه بأخذ أحد معه. لكنه واجه الموقف بشجاعة، وذهب بمفرده، وردّ على كل الأسئلة، ثم عاد كما ذهب، ثابتًا. من هذه اللحظة، بدأ يفكر بجدية في ضرورة خلق بيئة يستطيع فيها علماء الدين أن يعملوا بحرية، بعيدًا عن هيمنة المتنفذين أو السياسيين.

ومن هذا الدافع وُلِدت لاحقًا مؤسسة "مركز الثقافة السنية"، التي تُعد اليوم من أكبر المؤسسات التعليمية الإسلامية في الهند، وهي ثمرة رؤية وجهد هذا العالم الجليل الذي بدأ مجرد مُدرّس بسيط، فصار قائدًا لحركة علمية ودعوية وتربوية ضخمة.

لقد انتقد البعض علماء الدين وقللوا من شأنهم، بل وتجاوز ذلك إلى السخرية منهم، سواء من بعض المتدينين أنفسهم أو من السياسيين الذين لم يكونوا يرون فيهم سوى "حملة كتب". لكن الشيخ ابابكر أثبت أن عالم الدين قادر على أن يتجاوز كل ذلك، ويصل إلى منابر الساسة وقصور الرؤساء، ليس طمعًا في منصب، وإنما دفاعًا عن مكانة الدين والعلم والعلماء.

وحين يسأل البعض: "ماذا قدّم كانتّابورام للمجتمع؟"، فإن مجرد طرح هذا السؤال يكشف جهلًا عميقًا بحجم الإنجاز الذي حققه. لقد رفع من قيمة العلماء، وكسر الصورة النمطية عنهم، وجعل التعليم الديني في قلب النهضة، لا في هامشها

إرسال تعليق

0 تعليقات