تنصيح الرشادي الثقافي
جامعة مركز با الهند
لقد نُقل الدين الحق، الذي ورثه العلماء من بعد الأنبياء، عبر هؤلاء العلماء في مختلف العصور والبلدان، فكانوا صرحًا للعلم ومشاعل للهداية في شتى فروع المعرفة. وبعض هؤلاء العلماء ذكرهم التاريخ، بينما لم يحظَ البعض الآخر بتوثيق كافٍ، خاصة في الهند، حيث ساهم العديد من العلماء المسلمين في نهضة الأمة دون أن تُوثق سيرهم بشكل كافٍ.
ومن بين هؤلاء الذين لا يمكن تجاهلهم عند دراسة تاريخ الهند الإسلامي، الإمام صفيّ الهندي، أحد أبرز الأعلام الذين لا يمكن الاستغناء عنهم عند الحديث عن إسهامات المسلمين الهنود في العلوم الإسلامية.
ولد الإمام محمد بن عبد الرحيم بن محمد أبو عبد الله صفي الهندي في شهر ربيع الآخر سنة 644 هـ في الهند. كان شافعي المذهب في الفقه، وأشعري العقيدة في علم الكلام. وكان عالمًا موسوعيًا تميز بتبحّره في الفقه، والعقيدة، والمنطق، والأدب، كما عُرف بورعه وعبادته.
بدأ مسيرته العلمية بتعلم الفقه على يد جده، ثم سافر إلى دلهي، ومنها إلى اليمن، حيث استُقبل بتقدير بالغ من الملك الذي أكرمه وأعطاه 400 دينار، فانطلق بعدها إلى الحج، ومكث في الحجاز ثلاثة أشهر طلبًا للعلم، حيث تلقى عن كبار العلماء مثل ابن السبعين. ثم واصل رحلته عبر البحر إلى مصر، وأقام فيها أربع سنوات، ومن ثم ارتحل إلى الروم (الأناضول حالياً)، حيث قضى أحد عشر عامًا تُعدّ من أزهى فترات تحصيله العلمي.
وكان من أبرز شيوخه في الروم الإمام سراج الدين الأرموي، الذي نال الإمام صفي الهندي رضاه وثقته، بل وخدمه بإخلاص، حتى أنه حصل منه على الإجازة الكاملة. ثم ارتحل إلى دمشق سنة 685 هـ، حيث أتمّ مهمته التعليمية، ودرّس في مدارس كبرى كالعطابكية والظاهرية، وكرّس حياته لنشر العلم.
ومن مآثره، تواضعه وإقراره باخطائه؛ إذ كان يقول إن خطه سيئ جدًا. ويروي أنه وجد يومًا في مكتبة مخطوطة بخط رديء، فظن أنه أسوأ من خطه فاشتراها بثمن باهظ، ليكتشف في النهاية أنها كانت من كتاباته القديمة!
عُرف الإمام صفي الهندي بدوره الريادي في مواجهة الفرق الضالة والأفكار المنحرفة، خاصة تلك التي جاء بها ابن تيمية، حيث واجهه في مناظرة كبيرة حضرها الأمير وعلماء الشام. وحين حاول ابن تيمية التملص من النقاش وتغيير المواضيع، خاطبه الإمام قائلًا: "أراك كفرخ العصفور، كلما حاولت الإمساك بك من مكان قفزت إلى مكان آخر!"، مما أدى إلى اقتناع الحاضرين بالحقيقة، وانتهى الأمر بسجن ابن تيمية.
لقد كان الإمام من القلة الذين جمعوا بين الذكاء الوقاد، والعلم الغزير، والخلق الرفيع، والتعبد المتواصل، ويشهد له التاريخ بأنه كان من أعظم من مثّل مذهب أبي الحسن الأشعري في العقيدة. وكان له تأثير كبير على كتب علم الكلام، ومن أبرز تلاميذه: ابن المرحل، وابن الوكيل، وفخر المصري.
كما خلّف الإمام العديد من الكتب التي ما زالت تحظى بمكانة مرموقة في الوسط العلمي، من أبرزها:
نهاية الوصول إلى علم الأصول
الفائق في أصول الفقه
الزبَد في علم الكلام
الرسالة التسعينية في أصول الدين
ظل الإمام صفي الهندي منكبًا على العلم والتأليف حتى وافته المنية في 29 صفر سنة 715 هـ، ودُفن في مقبرة الصوفية في دمشق. إن حياته المليئة بالعلم والعمل تُعد نموذجًا يُحتذى به لكل طالب علم.
المراجع:
طبقات الشافعية – الإمام السبكي
شذرات الذهب – ابن العماد
معجم الشيوخ – الحافظ الذهبي
البداية والنهاية – ابن كثير
0 تعليقات