موت الدماغي في الفقه الاسلامي.ا
يرى كثيرٌ مِنَ الأطبَّاء المعاصِرِين أنَّ موت الدماغ يُوجِبُ الحكمَ بموت صاحِبِه، غير أنَّ المعروف ـ عادةً ـ أنَّ الحكم عليه بالموت إنما يكون عند توقُّفِ قلبه عن النبض نهائيًّا، فهل علامةُ موت الإنسان بموت دماغه أم بموت قلبه؟ وبناءً عليه: فهل يجوز رفعُ أجهزة الإنعاش عن المفلا تحصل حقيقةُ الموت ـ عند الفقهاء ـ إلَّا بمفارَقةِ الروحِ للبدن، بمعنى: زوالِ الحياة عمَّا وُجِدَ فيه الحياةُ أو عمَّنْ يتَّصِفُ بها بالفعل(١).: «الكلِّيَّات» لأبي البقا (٨٥٧)، «التعريفات الفقهية» للبركتي (٢٢٠).
ما هو الموت الدماغيّ وما أسبابه؟
يُعتبر الدماغ المحرّك الرئيسيّ للجسم، ويتكوّن من عدّة أقسام، لكلّ منها وظيفة (المخ، المُخيخ، وجذع المخ). تتواجد في جذع المخّ مراكز التحكّم الأساسيّة المطلوبة لحياة الانسان، مثل الوعي والادراك، التنفس العفويّ اللاإراديّ، ومركز التحكّم في نبضات القلب وضغط الدم. عند إصابة جذع المخّ بأذيّة ما، تتوقّف وظيفته الحيويّة كليّا، وهذا ما يُطلق عليه "بالموت الدماغي" أو "موت جذع المخّ"، إذ يتوقف الانسان عن التنفّس، وينقطع التحكّم في نبضات القلب وضغط الدم، ممّا يُؤدّي إلى توقّف خفقان القلب وموته. من أسباب الموت الدماغيّ إصابة الرأس بضربة، مثل سقوط من مُرتفَع، نزيف دماغي كثيف، انقطاع التروية الدموية والاوكسجين لمدة طويلة الناجم عن انسداد في الأوعية الدموية الرئيسيّة في المخ، أو نتيجة لقصور القلب عن ضخ الدمّ إلى المخ ّبسبب سكتة قلبية.
ومعيارُ مفارَقةِ الروحِ للبدن: علامةٌ واضحةٌ على تحقُّقِ الموت الفعليِّ، وهو ما تقتضيه النصوصُ الشرعية وتُؤكِّدُه، منها: حديثُ أمِّ سَلَمة رضي الله عنها قالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»»(،خرجه مسلمٌ في «الجنائز» (٩٢٠) مِنْ حديثِ أمِّ سلمة رضي الله عنها
وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما واصفًا قَبْضَ الملائكةِ روحَ المؤمن: «.. فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا ـ أي: مَلَكُ الموت ـ»
«فقَدِوردت الأحاديثُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الأرواح تُقْبَضُ وتُنعَّمُ وتُعذَّبُ ويقال لها: اخْرُجِي أيَّتُها الروحُ الطيِّبة
»وإذا تَقرَّرَ ما سَبَقَ فإنَّ العلماء والأطبَّاء لم يختلفوا في هذه الحقيقةِ الشرعية المتمثِّلةِ في مفارَقةِ الروح البدنَ؛ بل حكموا بالوفاة على مَنْ تَلِفَتْ خلايا دماغِه وتعطَّلَتْ جميعُ وظائفه وتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا كُلِّيًّا، وعليه فإنه ـ في تحرير مَحَلِّ النزاع ـ يتقرَّر أنَّ اجتماع العلَّتَيْن والاستدلالَ بهما على تحقُّقِ الموت ووقوعِ الوفاة بمفارَقةِ الروحِ البدنَ أمرٌ مُجْمَعٌ عليه، هذا مِنْ جهةٍ.
كما أنه لا خلافَ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ في الحكم بحياة المريض إذا طَرَأَ على دماغه عارضٌ معلومٌ زوالُه يمنعه في ذلك الوقتِ مِنَ القيام بمَهَمَّتِه.وإنما يتوجَّهُ الخلافُ بينهم فيما إذا استمرَّ القلبُ في نبضاته مع تَلَفِ جذعِ الدماغ، فهل يُحْكَمُ عليه ـ شرعًا ـ بالموت أم لا بُدَّ مِنِ اجتماع العلَّتين السابقتَيْن حتَّى يُقَرَّرَ فيه هذا الحكمُ؟
والقول المعتمَدُ في هذه المسألة: عدمُ اعتبار موت الدماغ موتًا حقيقيًّا دون قلبِه، ولا تترتَّبُ عليه آثارُ موته به حتَّى يتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا نهائيًّا، ويُتيَقَّنَ مِنْ مفارَقةِ الروح للبدن بأماراتٍ ذَكَرَها الفقهاء، منها: شخوصُ البصر، وتوقُّفُ التنفُّس، وبرودةُ البدن، واسترخاءُ القدمين، وانخسافُ الصُّدْغين، ونحوُ ذلك مِنَ العلامات الدالَّةِ على الوفاة يقينًا، ولا يجوز العملُ فيها بالشكِّ ولا غَلَبةِ الظنِّ؛ لأنَّ الأصل في المريض الحياةُ، فتُستصحبُ حياتُه ولا يُجْزَمُ بموته إلَّا بعد التيقُّنِ مِنْ زوالها منه؛ إذ «الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»(«الأشباه والنظائر» للسيوطي
والحكمُ بموت دماغه مع بقاء نبضات قلبه وتنفُّسِه وغيرِهما مِنْ علامات الحياة: هو شكٌّ في موته؛ لذلك وَجَبَ العملُ باليقين المُوجِبِ للحكم بحياته وهو الأصلُ ـ كما تَقدَّمَ ـ عملًا بقاعدةِ: «اليَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ»،
قال ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ: «وإِنِ اشتبه أمرُ الميِّت اعتُبِر بظهور أمارات الموت، مِنِ استرخاء رجليه، وانفصالِ كفَّيْه، وميلِ أنفِه، وامتدادِ جلدة وجهه، وانخسافِ صُدْغيه، وإِنْ مات فجأةً كالمصعوق، أو خائفًا مِنْ حربٍ أو سَبُعٍ، أو تردَّى مِنْ جبلٍ؛ انتُظِرَ به هذه العلاماتُ حتَّى يُتيقَّنَ موتُه»(٨)المغني» لابن قدامة (٢/ ٤٥٢).
وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «فإِنْ شكَّ بأَنْ لا يكون به علَّةٌ، واحتمل أَنْ يكون به سكتةٌ، أو ظهرَتْ أماراتُ فزعٍ أو غيرِه؛ أُخِّرَ إلى اليقين بتغيير الرائحة أو غيرِه»(٩).روضة الطالبين» للنووي (٢/ ٩٨).
ولا يُقاسُ الميِّتُ دماغيًّا على المولود الذي لم يصرخ حالَ ولادته ولو تَنفَّسَ أو تَحرَّكَ؛ لأنَّ اعتبار حياة المولود مِنْ موته مَحَلُّ نزاعٍ بين العلماء؛ فهو ـ إذن ـ مشكوكٌ في حياته، بخلاف المريض فإنَّ الأصل فيه الحياةُ ولو مات دماغُه، ما لم يُتيقَّنْ مِنْ مفارَقةِ الروحِ جسدَه بأماراتها؛ لذلك يَتعذَّرُ القياسُ عليه؛ لظهور الفارق بينهما.
وعليه، فلا تترتَّبُ الآثارُ التي تَعْقُبُ الموتَ مِنِ: اعتداد زوجته، وتنفيذِ وصاياهُ، وقسمةِ تركته، ونحوِ ذلك، إلَّا بعد تحقُّق وفاة الميِّت التي لا تكون إلَّا باجتماع العلَّتَيْن مِنْ تلفِ خلايا الدماغ، مع توقُّف القلب والتنفُّس نهائيًّا، وما يستتبعه مِنْ علامات الموت الأخرى على وجه اليقين، «إذا شكَّ: هل مات مورِّثُه فيَحِلُّ له مالُه أو لم يَمُتْ؟ لم يَحِلَّ له المالُ حتَّى يتيقَّنَ موتَه»(١٠).بدائع الفوائد» (٣/ ٢٧٣).
أمَّا عن رفعِ أجهزة الإنعاش عن المريض بعد موت دماغه: فقَدْ أفتى المَجْمَعُ الفقهيُّ وهيئةُ كبار العلماء بأنَّ المريض الذي رُكِّبَتْ على جسمه أجهزةُ الإنعاش يجوز رفعُها إذا تَعطَّلَتْ جميعُ وظائف دماغه تعطُّلًا نهائيًّا، وقرَّرَتْ لجنةٌ مِنْ ثلاثة أطبَّاءَ اختصاصيِّين خُبَراءَ أنَّ التعطُّلَ لا رجعةَ فيه، وإِنْ كان القلبُ والتنفُّس لا يَزالان يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركَّبة، لكِنْ لا يُحْكَمُ بموته شرعًا إلَّا إذا تَوقَّفَ التنفُّسُ والقلبُ توقُّفًا تامًّا بعد رفعِ هذه الأجهزة،..ريض عند تعطُّلِ دماغه كُلِّيًّا، ولو مع بقاءِ نبضاتِ قلبِه بالتنفُّس الاصطناعيِّ؟
قال ابن حجر رحمه الله في تحفة المحتاج ومتى شك في موته [وجب تأخيره إلى اليقين بتغير ريح أو نحوه فذكرهم العلامات الكثيرة له إنما تفيد حيث لم يكن هناك شك خلافا لما يوهمه كلام شارح وقد قال الأطباء : إن كثيرين ممن يموتون بالسكتة ظاهرا يدفنون أحياء لأنه يعز إدراك الموت الحقيقي بها إلا على أفاضل الاطباء كتاب الجناءز
خلاصة الكلام في هذه القضية وذهب العلماء إلى عدم اعتباره وفاة شرعية لبقاء نبض قلبه وجريان النفس فيه، وهذا القول الراجح عندنا لأن حالات كثيرة شخصت على أن صاحبها قد مات موتاً دماغياً، وعاش بعد ذلك واستمرت به الحياة، فقد ذكرت صحيفة الشرق الأوسط في نسختها الإلكترونية بتاريخ 30 يونيو 2001 أن عالماً بريطانياً متخصصاً بدراسة المصابين بالنوبات القلبية توصل إلى أنه هناك دلائل تدل على استمرار وعي الإنسان حتى بعد توقف الدماغ وذكر أنه درس حالات اعتبر الأطباء أصحابها ماتوا سريرياً ثم عادوا للحياة، ونقل العلامة محمد محمد مختار الشنقيطي في كتابه الجراحة الطبية عن العلامة بكر أبي زيد أنه قال: حَكَم جمع من الأطباء على شخصية مرموقة بالوفاة لموت جذع الدماغ لديه وأوشكوا على انتزاع بعض الأعضاء منه، لكن ورثته منعوا من ذلك، ثم كتب الله له الحياة ومازال حيا إلى تاريخه. انتهى
ونشرت جريدة "المسلمون" في عددها رقم: 232 بتاريخ 11/12/1409هـ
أن طفلاً ولد بدون مخ وقرر الأطباء أنه لا يعيش أكثر من أسبوعين وبلغ إلى وقت الخبر خمس سنوات.. ثم ذكرت حالتين أخريين الأولى: بلغ صاحبها على وقت نشر الخبر اثنتي عشرة سنة، والثانية يبلغ عمره ثلاث سنوات.ومعلوم عند الأطباء أن الجسد يقبل الدواء والغذاء وتظهر عليه آثار النمو عندما يحكمون بوفاته دماغياً، والأعضاء البشرية لا تستجيب لوسائل الحياة إذا كانت قد ماتت.والكتاب والسنة لا يرتبان أحكام الوفاة إلا على الموت النهائي في معلومنا، والأصل بقاء الحياة فلا تزول إلا بيقين.والأطباء الذين يعتبرون موت الدماغ يسلمون بوجود أخطاء في التشخيص في مثل هذه الحالات مما يجعل اعتبار هذه العلامة موجبة للحكم بالوفاة يؤدي إلى خطر عظيم وتعدٍ على الأرواح التي من ضرورات الشريعة حفظها وصيانتها.وقد ذكر الفقهاء للموت علامات منها: شخوص البصر، وانقطاع النفس، وانفراج الشفتين، وسقوط القدمين، وانفصال الزندين، وميل الأنف، وامتداد جلدة الوجه، وانخساف الصدغين، وتقلص الخصيتين مع تدلي جلدتيهما.
وقد نصوا على أن من مات بحادثة يحتمل معها بقاء حياته فلا يتعجل بتجهيزه حتى يتيقن موته
، قال الشافعي رحمه الله بعد أن ذكر بعض علامات الوفاة السابقة: فأما إن مات مصعوقاً أو غريقاً أو حريقاً أو خاف من حرب أو سبع أو تردى من جبل أو في بئر فمات فإنه لا يبادر به حتى يتحقق موته..... فيترك اليوم واليومين والثلاثة حتى يخشى فساده لئلا يكون مغمى عليه أو انطبق حلقه أو غلب المرار عليه.طباء
0 تعليقات