ولادة "أقدم طفل في العالم" من جنين مجمَّد منذ عام 1994 ونظرة الفقه الإسلامي




عبد الله الثقافي البلنوري

عميد كلية اصول الدين بجامعة مركز، الهند

وجدتُ خلال قراءتي هذا الأسبوع خبرًا عجيبًا، فأردت تحليله في ضوء الفقه الإسلامي، إثر تصريح بعض المعاصرين بأن "الفقهاء ليس لهم نظرة متينة في هذه القضية". أقدم نص الخبر وآراء الفقهاء ومواقفهم من هذه القضية:

واشنطن – أوهايو:

شهدت الولايات المتحدة حدثًا غير مسبوق في عالم الطب والتكنولوجيا الإنجابية، حيث وُلد طفل يُعد "الأقدم في العالم" من حيث مصدر الجنين. الطفل، واسمه ثاديوس دانيال بيرس، وُلد يوم 26 يوليو 2025، من جنين تم تجميده قبل 30 عامًا، وتحديدًا عام 1994.

خلفية القصة:

في عام 1994، خضعت ليندا آرتشيرد وزوجها آنذاك لتجربة التلقيح الصناعي (IVF) بسبب عدم قدرتها على الحمل طبيعيًا. تم إنتاج أربعة أجنة، زُرع أحدها في رحم ليندا آنذاك، وأُودِعت الأجنة الثلاثة الأخرى في التجميد العميق (التبريد بالتجميد - cryopreservation)، وحُفظت طوال العقود الثلاثة الماضية.

في السنوات اللاحقة، تبنّى زوجان من ولاية أوهايو، ليندسي وتيم بيرس، أحد هذه الأجنة عبر برنامج "Snowflakes Embryo Adoption" (برنامج تبنّي الأجنة المجمدة)، بعد محاولات طويلة للإنجاب دون جدوى.

الأهمية الطبية:

تُعدّ هذه الولادة إنجازًا طبيًا فريدًا، حيث تُثبت أن الأجنة البشرية المجمّدة يمكن أن تظل قابلة للحياة حتى بعد مرور أكثر من 30 عامًا.

وُلد الطفل ثاديوس سليمًا وبصحة جيدة، مسجلاً رقمًا قياسيًا عالميًا كأقدم جنين يُزرع وينتج عنه ولادة ناجحة.

وكان الرقم القياسي السابق عام 2022، حين وُلد توأم من جنينين مجمّدين منذ عام 1992. 

  وجدير بالقول ان هذا وأمثاله بالنسبة إلى الفقه وعلمائه ليس وليد اليوم؛ فقد أشار الفقهاء إلى هذا الموضوع وبحثوا مسألة حفظ المني واستعماله بعد مدة، حتى إنهم بحثوا في التلقيح بعد موت الزوج وإدخاله إلى رحم الزوجة.

لكن بعض المعاصرين أكدوا وصرحوا بأن الفقهاء القدامى لم يتعرضوا لهذه القضية، وذلك لعدم معرفتهم بأساليب الفقهاء ومناهجهم.

وقد عبّر الفقهاء عن هذه القضية بـ"الاستدخال"، وهو ما يُعبَّر عنه في العصر الراهن بـ"التلقيح الاصطناعي" (Artificial Insemination).

وقد بحث فقهاء الإسلام في كتبهم الأمور الآتية:

إخراج نطفة الزوج وإدخالها إلى رحم زوجته

إخراج نطفة الزوج وإدخالها إلى امرأة أجنبية.

إدخال نطفة الزوج وبييضة زوجته إلى زوجة أخرى له.

اخذ نطفة الاجنبي وبييضة الاجنبية وإدخالها الي رحم زوجته

إخراج نطفة الزوج وإدخالها إلى زوجته بعد موته.

إرسال المني من مكان إلى مكان آخر.

حفظ المني واستعماله بعد مدة.كما تعلم هذه الصور من

نصوص الفقهاء في التلقيح الاصطناعي والمسائل المتفرعة عليه 

قال ابن حجر رحمه الله في ثبوت العدة:

(وإنما تجب) أي عدة النكاح....... (بعد وطء) بذكر، (أو) بعد (استدخال منيه) أي الزوج المحترم وقت إنزاله واستدخاله، ولو مني مجبوب، لأنه أقرب للعلوق من مجرد إيلاج قُطع فيه بعدم الإنزال. تحفة المحتاج ٨/٢٣٠

ورد ابن حجر رحمه الله على زعم أن الهواء يُفسد الحيوانات المنوية: وقال رحمه الله "وقول الأطباء الهواء يفسده فلا يتأتى منه ولد، ظن لا ينافي الإمكان. ومن ثم لحق به النسب أيضًا". تحفة المحتاج ٨/٢٣٠ ويفهم من عبارته إن قوة المني لاتسقط لمدة طويلة تصلح للانجاب

وأشار ابن حجر إلى شروط التلقيح الاصطناعي، فقال:

"أما غير المحترم عند إنزاله بأن أنزله من زنا فاستدخلته زوجته، وهل يُلحق به ما استنزله بيده لحرمته أو لا للاختلاف في إباحته؟ كل محتمل، والأقرب الأول، فلا عدة فيه ولا نسب يُلحق به". تحفة المحتاج ٨/٢١

والمراد بالاحترام: إخراج المني وإدخاله بطريق شرعي، فلا يثبت النسب والعدة وغيرها إذا كان الإخراج أو الإدخال بأسلوب محرم عند ابن حجر.

أما عند الإمام الرملي، فيجب أن يكون محترمًا عند الإخراج فقط، وأما عند الإدخال فلا يُلتفت إلى كيفيته.ومن هنا بحث إن اخراج المني با الحقنة "Injection " يعد محترما املا, فقال بعض علماء مليبار "يعد محترما " لان الحقنة في ذاته جائز ليس كالاستمناء

والبعض قالوا الحقنة غير محترم فلا يجوز اخذ النطفة به ولعل الاول اقرب والله اعلم

قال ابن حجر رحمه الله:

"(تنبيه) مرّ أن الاستدخال كالوطء بشرط احترامه حالة الإنزال ثم حالة الاستدخال.... لا يثبت بالاستدخال بشرطه إلا النسب والمصاهرة والعدة، وكذا الرجعة على المعتمد.... وغير المحترم كماء زنا الزوج لا يثبت به شيء...".

تحفة المحتاج ٧/٣٠٣

ومن هذه العبارات يُعلم حكم هذا الطفل المولود بتلقيح اصطناعي، وإمكانه، ومحاذيره إذا فُقدت الشروط.

وبيّن رحمه الله:

"...نعم يشترط حيث لا وطء صحة العقد، لأن الفاسد لا حرمة له ما لم ينشأ عنه وطء أو استدخال، لأنه حينئذ وطء شبهة أو استدخال، وهو محرَّم...".

تحفة المحتاج ٧/٣٠٢

وفي "الفتاوى الكبرى" أيضًا بحث عن الاستدخال، وأوضح ابن حجر أنه يشترط في اللحوق بالاستدخال احترامه في حال الإنزال والاستدخال.

٤/٣٩٤

ولا خلاف في مذهب الحنفية أيضًا في هذه المسألة.

قال في البحر الرائق:

"وأطلق في الولادة من السيد، فشمل ما إذا كان بجماع منه أو بغيره، لما في المحيط عن أبي حنيفة: إذا عالج الرجل جاريته فيما دون الفرج فأنزل، فأخذت الجارية مائه في شيء فاستدخلته فرجها في حدثان ذلك، فعلقت الجارية وولدت، فالولد ولده، والجارية أم ولد له".

٤/٢٩٢. وهذه العبارة نصّت ودلّت على قضية تأجير الرحم، لكن ليس على الصورة العصرية. وتأجير الرحم غير جائز في الشرع، لأن المنفعة في الإجارة يجب أن تكون مباحة، فكيف تكون منفعة رحم امرأةٍ أجنبيةٍ مباحة؟ وأيضًا قال تعالى: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ"، فكيف تكون نساء غيركم جائزةً؟

قال الإمام الكاساني في البدائع:

"وكذلك لو فرّق القاضي بينها وبين المجبوب، فجاءت بولد بينهما وبين سنتين، ثبت نسبه، لأن خلوة المجبوب توجب العدة، والنسب يثبت من المجبوب...".

٢/٣٢٦

وفيها عبّر الكاساني رحمه الله بالقذف، ومراده الاستدخال أو إرسال المني من مكان إلى مكان آخر. والله أعلم.

وبيّن الفقهاء حكم التلقيح الاصطناعي بعد وفاة الزوج:

قال في المغني المحتاج:

"...وخرج بقولنا (في حال حياته) ما إذا استدخلت منيه المنفصل في حال حياته بعد موته، فلا يثبت به أمومة الولد، لأنها بالموت انتقلت إلى ملك الوارث...".

٤/٥٣٩

قال في نهاية المحتاج:

"...وكذا إن استدخلت مائك المحترم حالة إنزاله، على الراجح كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى، وإن لم يكن محترمًا حال الاستدخال، خلافًا للماوردي ومن تبعه، إذ هو كالوطء في أكثر أحكامه في هذا الباب"٦/٢٣٢. ورد في تحفة المحتاج

فرع:وقع السؤال في الدرس: ما لو كان لشخص أمتان، فوطئ إحداهما وحملت منه، فوضعت علقة، فأخذتها الأمة الثانية ووضعتها في فرجها، فتخلقت وولدت ولدًا، فهل تصير الأمة الثانية مستولدة؟

اعتمد شيخنا ع ش أنها لا تصير مستولدة بذلك، لأنه لم ينعقد من منيها، ويلحقه الولد فقط... إلخ.

وفي معيار الامومة خلاف بين الفقهاء والبعض اعتبروا الولادة والجزئية والبعض اعتبر المني والبييضة ولا اعتبار بالولادة فقط والله اعلم

ويجري في العالم اليوم حفظ المني في "بنك المني"، وإدخاله بعد مدة طويلة، كما وقع في الخبر المذكور، وذلك رغبة في إنجاب الولد.

وهذا ما تقوم به شركات متخصصة في الولايات المتحدة وغيرها، تأخذ مني العباقرة والحائزين على جوائز نوبل وغيرهم، وتحتفظ به في ثلاجاتها، وتعطيه لمن يطلب ويدفع الثمن.

وقد يذهب الزوج إلى الحرب، كما حصل في فيتنام، وهو يريد الولد، فيدفع بمنيه إلى البنك لتلقّح به زوجته في الوقت المناسب، فتحبل منه، وهو في فيتنام أو بعد وفاته.

والفقه لا يُحرّم ذلك مطلقًا، لكن الحذر كل الحذر لازم، لأن إخراج المني وإدخاله في رحم زوجته بعد مدة قصيرة أو طويلة لا يكون محرمًا شرعًا إلا في حال عدم توافر الشروط المعتبرة.

القضية المذكورة في الخبر إذا كانت بطريق شرعي تُعتبر، وإلا فلا تُعتبر.

خلاصة القول:

الجماع ليس شرطًا للحوق النسب والإرث والولاية، بل يكفي استدخال المني يعني التلقيه الاصطناعي على أي وجه كان.علي خلاف فيه

فإذا كانت المنوية والبويضة من الزوج والزوجة، ثم وُضعتا في الأنبوب في حياة الزوج، ثم في رحم الزوجة، يثبت الإرث والنسب والولاية.وغيرهما من المعتبرات

وكذا إذا وُضعتا في رحم أجنبية، فهذه الأجنبية لا تكون أمًّا للمولود من حيث الإرث، وإنما الأب والأم الحقيقيان هما صاحب المني وصاحبة البويضة.لكن هذا الفعل فيه نظر

أما إذا كان المني والبويضة من أجنبيين مجهولين، فالولد مجهول الوالدين، وتكون الحاملة المرضعة وزوجها أبًا وأمًّا من الرضاع إن أرضعت، ولا يثبت الإرث، ويكون القاضي وليه، ويحصل على المال بالوصية.








إرسال تعليق

0 تعليقات